سورة البقرة - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


ذكر سبحانه في أول هذه السورة المؤمنين الخلص، ثم ذكر بعدهم الكفرة الخلص، ثم ذكر ثالثاً المنافقين وهم الذين لم يكونوا من إحدى الطائفتين، بل صاروا فرقة ثالثة؛ لأنهم وافقوا في الظاهر الطائفة الأولى، وفي الباطن الطائفة الثانية، ومع ذلك فهم أهل الدرك الأسفل من النار. وأصل ناس أناس حذفت همزته تخفيفاً، وهو من النوس، وهو: الحركة، يقال: ناس ينوس: أي تحرّك، وهو من أسماء الجموع جمع إنسان وإنسانة على غير لفظه، واللام الداخلة عليه للجنس، و{من}تبعيضية: أي بعض الناس، و{من} موصوفة: أي ومن الناس ناس يقول. والمراد باليوم الآخر: الوقت الذي لا ينقطع، بل هو دائم أبداً. والخداع في أصل اللغة: الفساد، حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي، وأنشد:
أبيض اللون رقيقٌ طعمه *** طيبُ الرِّيقِ إذا الرِّيقُ خدعْ
وقيل: أصله الإخفاء، ومنه مخدع البيت الذي يحرز فيه الشيء، حكاه ابن فارس، وغيره. والمراد من مخادعتهم لله: أنهم صنعوا معه صنع المخادعين، وإن كان العالم الذي لا يخفى عليه شيء لا يخدع. وصيغة فاعل تفيد الاشتراك في أصل الفعل، فكونهم يخادعون الله والذين آمنوا يفيد أن الله سبحانه والذين آمنوا يخادعونهم. والمراد بالمخادعة من الله: أنه لما أجرى عليهم أحكام الإسلام مع أنهم ليسوا منه في شيء، فكأنه خادعهم بذلك كما خادعوه بإظهار الإسلام وإبطان الكفر مشاكلة لما وقع منهم بما وقع منه. والمراد بمخادعة المؤمنين لهم: هو أنهم أجروا عليهم ما أمرهم الله به من أحكام الإسلام ظاهراً، وإن كانوا يعلمون فساد بواطنهم، كما أن المنافقين خادعوهم بإظهار الإسلام وإبطان الكفر.
والمراد بقوله تعالى: {وَمَا يخادعون إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} الإشعار بأنهم لما خادعوا من لا يخدع كانوا مخادعين لأنفسهم، لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن. وأما من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع فإنما يخدع نفسه وما يشعر بذلك، ومن هذا قول من قال: من خادعته فانخدع لك فقد خدعك.
وقد قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {يخادعون} في الموضعين، وقرأ حمزة وعاصم والكسائي وابن عامر في الثاني {يخدعون}. والمراد بمخادعتهم أنفسهم: أنهم يمنونها الأمانيّ الباطلة، وهي كذلك تمنيهم. قال أهل اللغة: شعرت بالشيء فطنت. قال في الكشاف: والشعور علم الشيء علم حس، من الشعار ومشاعر الإنسان: حواسه. والمعنى: أن لحوق ضرر ذلك لهم كالمحسوس، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له. والمراد بالأنفس هنا ذواتهم لا سائر المعاني التي تدخل في مسمى النفس كالروح والدم والقلب.
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهم المنافقون من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود أنه قال: والمراد بهذه الآية المنافقون.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة مثله.
وأخرج ابن المنذر عن ابن سيرين قال: لم يكن عندهم شيء أخوف من هذه الآية {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله وباليوم الأخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ}.
وأخرج ابن سعد عن حذيفة أنه قيل له: ما النفاق؟ قال: أن يتكلم بالإسلام ولا يعمل به.
وأخرج أحمد بن منيع في مسنده بسند ضعيف عن رجل من الصحابة، أن قائلاً من المسلمين قال: يا رسول الله ما النجاة غداً؟ «قال: لا تخادع الله» قال: وكيف نخادع الله؟ قال: «أن تعمل بما أمرك الله به تريد به غيره، فاتقوا الرياء فإنه الشرك بالله فإن المرائي ينادي يوم القيامة على رؤوس الخلائق بأربعة أسماء: يا كافر يا فاجر يا خاسر يا غادر، ضلّ عملك وبطل أجرك فلا خلاق لك اليوم عند الله، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع، وقرأ آيات من القرآن» {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالحا} [الكهف: 110] الآية، و{إِنَّ المنافقين يخادعون الله} [النساء: 142] الآية.
وأخرج ابن جرير عن ابن وهب قال: سألت ابن زيد عن قوله: {يخادعون الله والذين ءامَنُوا} قال: هؤلاء المنافقون يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا أنهم مؤمنون بما أظهروه. وعن قوله: {وَمَا يخادعون إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} أنهم ضرّوا أنفسهم بما أضمروا من الكفر والنفاق.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله: {يخادعون الله} قال: يظهرون لا إله إلا الله يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم وفي أنفسهم غير ذلك.


المرض: كل ما يخرج به الإنسان عن حدّ الصحة، من علة أو نفاق أو تقصير في أمر، قاله ابن فارس. وقيل: هو الألم، فيكون على هذا مستعاراً للفساد الذي في عقائدهم إما شكاً ونفاقاً، أو جحداً وتكذيباً، وتقديم الخبر للإشعار بأن المرض مختص بها، مبالغة في تعلق هذا الداء بتلك القلوب، لما كانوا عليه من شدّة الحسد، وفرط العداوة. والمراد بقوله: {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} الإخبار بأنهم كذلك بما يتجدد لرسول الله صلى الله عليه وسلم من النعم، ويتكرّر له من منن الله الدنيوية والدينية. ويحتمل أن يكون دعاء عليهم بزيادة الشك وترادف الحسرة وفرط النفاق. والأليم المؤلم أي: الموجع، و(ما) في قوله: {بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} مصدرية أي: بتكذيبهم وهو: قولهم {آمنا بالله وباليوم الآخر} [البقرة: 8] والقراء مجمعون على فتح الراء من قوله: {مرض} إلا ما رواه الأصمعيّ عن أبي عمرو أنه: قرأ بإسكان الراء، وقرأ حمزة وعاصم، والكسائي {يَكْذِبُونَ} بالتخفيف، والباقون بالتشديد.
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: {فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} قال: شكّ {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} قال: شكاً.
وأخرج عنه ابن جرير وابن أبي حاتم في قوله: {فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} قال: النفاق {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال: نكال موجع {بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} قال: يبدّلون ويحرفون.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود مثل ما قاله ابن عباس أوّلاً.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: كل شيء في القرآن أليم، فهو الموجع.
وأخرج أيضاً عن أبي العالية مثله.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله أيضاً.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة {فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} أي: ريبة وشكّ في أمر الله {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} ريبة وشكاً {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} قال: إياكم والكذب فإنه باب النفاق.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: هذا مرض في الدين، وليس مرضاً في الأجساد وهم المنافقون. والمرض: الشك الذي دخل في الإسلام.
وروي عن عكرمة وطاوس أن المرض: الرياء.


{إذا} في موضع نصب على الظرف والعامل فيه {قالوا} المذكور بعده. وفيه معنى الشرط. والفساد ضد الصلاح، وحقيقته العدول عن الاستقامة إلى ضدها. فسد الشيء يفسد فساداً وفسوداً فهو فاسد وفسيد. والمراد في الآية: لا تفسدوا في الأرض بالنفاق، وموالاة الكفرة، وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، فإنكم إذا فعلتم ذلك فسد ما في الأرض بهلاك الأبدان وخراب الديار وبطلان الزرائع كما هو مشاهد عند ثوران الفتن والتنازع.
و {إنما} من أدوات القصر، كما هو مبين في علم المعاني. والصلاح ضد الفساد. لما نهاهم الله عن الفساد الذي هو دأبهم أجابوا بهذه الدعوى العريضة، ونقلوا أنفسهم من الاتصاف بما هي عليه حقيقة وهو: الفساد، إلى الاتصاف بما هو ضدّ لذلك وهو الصلاح، ولم يقفوا عند هذا الكذب البحت والزور المحض حتى جعلوا صفة الصلاح مختصة بهم خالصة لهم، فردّ الله عليهم ذلك أبلغ ردّ؛ لما يفيده حرف التنبيه من تحقق ما بعده، ولما في إن من التأكيد، وما في تعريف الخبر مع توسيط ضمير الفصل من الحصر المبالغ فيه بالجمع بين أمرين من الأمور المفيدة له، وردّهم إلى صفة الفساد التي هم متصفون بها في الحقيقة ردّاً مؤكداً مبالغاً فيه بزيادة على ما تضمنته دعواهم الكاذبة من مجرد الحصر المستفاد من {إنما}. وأما نفي الشعور عنهم فيحتمل أنهم لما كانوا يظهرون الصلاح مع علمهم أنهم على الفساد الخالص، ظنوا أن ذلك ينفق على النبي صلى الله عليه وسلم، وينكتم عنه بطلان ما أضمروه، ولم يشعروا بأنه عالم به، وأن الخبر يأتيه بذلك من السماء، فكان نفي الشعور عنهم من هذه الحيثية لا من جهة أنهم لا يشعرون بأنهم على الفساد. ويحتمل أن فسادهم كان عندهم صلاحاً لما استقرّ في عقولهم من محبة الكفر وعداوة الإسلام.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن مسعود أنه قال: الفساد هنا هو: الكفر والعمل بالمعصية.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} أي: إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد في تفسير هذه الآية قال: إذا ركبوا معصية فقيل لهم: لا تفعلوا كذا قالوا إنما نحن على الهدى.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن سلمان؛ أنه قرأ هذه الآية فقال: لم يجئ أهل هذه الآية بعد. قال ابن جرير: يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فساداً من الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد انتهى. ويحتمل أن سلمان يرى أن هذه الآية ليست في المنافقين بل يحملها على مثل أهل الفتن التي يدين أهلها بوضع السيف في المسلمين كالخوارج وسائر من يعتقد في فساده أنه صلاح؛ لما يطرأ عليه من الشبه الباطلة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8